✍ ٢٣ رمضان ١٤٤٠هـ
أبي… وكفى أن أقول وتقول أنت أيها القارئ والمُشاهد والمستمع “أبي”.
من يشقى لأجلك ويدفع حياته ثمنًا لراحتك سوى والدك؟
من يسهر ويتعب لأجلك غير والدك؟
من يدافع عنك ويحميك ويؤدبك إلا والدك؟
هي بعض الاستثناءات وليست جميعها ، شيء من أشياء لا كُلها، فيضُ وصفٍ من صفاتٍ يصعُبُ حصرُها، إن حاولت سردها يُمكنني تأليف كتاب، ولو سعيت لتعدادها نفذت الأوراق وجفَّت الأحبار.
عن أبي وآبائكم جميعًا كتبت الأسطر أعلاه وأستميحكم عذرًا أن أكتب عن والدي رحمه الله تعالى في المقال أدناه.
” أبي” رحمه الله وذكريات العُمر في رمضان وقائع وأحداث لا أنساها مهما حييت وسوف أحكيها لأبنائي في كل حين وأخص رمضان لأن حياتنا فيه مع والدي ووالدتي مختلفة تمامًا وفي شهر رمضان ١٤٣٠هـ رحل والدي الغالي عن الدنيا وتجددت ذكرى رحيله في رمضان ١٤٣١هـ برحيل شقيقي الأصغر ” جابر” رحمهما الله وجميع موتى المسلمين والمسلمات… اعتاد والدي رحمه الله التعايش مع المناسبات الدينية بطقوسٍ إيمانية وروحانية في غاية الروعة والجمال وكان الاستعداد لمواسم الخير في بيتنا مختلف عن كل المناسبات فأبي وأمي يشتركان في تلك الاعدادات والتجهيزات ويُشركانا معهما فنعيش نشوة الصوم وبهجة العيد وفرحة الأضحى ونتابع بشغفٍ بالغ شعائر الحج لأنهما أديَّا فريضة الحج ونحن في سن الطفولة ننتظر عودتهما كسائر الحجيج في ذلك الزمن الجميل.
” أبي” تعلمت منه تفطير الصائمين وإطعام الجائعين وتشييع الجثامين وإعانة المحتاجين.. فلقد صحِبتُهُ أعوامًا ورافقته أسفارًا وأودعني أسرارًا كنتُ لها بئرًا وقرارًا.. واستفدت منه دروسًا حياتية ماكنت لأتعلمها في المدارس أو المجالس فكم كان بنا عطوفًا رحيمًا وعلى أذى من آذاه صبورًا حليمًا رغم كِبر سنه ومرض جسده بعد تكرار جلطات قلبه رحمه الله تعالى.
عامان ورمضانان عشنا في نهاية أولها ومنتصف ثانيها أصناف الحزن والأسى ففي نهاية الأول وقبل العيد بثلاث ليالٍ فقدنا ” أبي” فجأة وكانت فاجعةً حزينةً ومؤلمة بعد عودتنا جميعًا من أداء العمرة لكنها أقدار الله ومشيئته وقد عرفنا عنه في حياته الصبر وتعلمنا منه الاحتساب فلا مناص ولا جزع مهما كان حجم الفجيعة والألم وفي رمضان التالي ومع تجدد الذكرى وبينما أسرتنا كافة تتذكر مآثر ومواقف ومشاهد والدنا الحبيب في كل رمضان داعين له بالرحمة والمغفرة والعتق من النار وقبل أن تنقضي العشر الثانية ومع آخر لياليها قبل أول ليالي العشر الأواخر تأتي الأنباء بفاجعةٍ قوية ومصيبةٍ مُدوِّية إذ تعرض أخي – الشاب اليافع المتوقد حيوية – لحادث مروري وهو في طريق عودته من العمرة ويوافيه الأجل ويلحق بوالدي… بات المشهد متكررًا وتحولت ذكرياتنا في رمضان من نشوة الصيام وبهجة العيد لمآسي وأحزان وفقد أبٍ حنون وأخٍ رؤوم الأول بعد أداء العمرة مع كامل الأسرة والثاني أثناء عودته كذلك من العمرة ولا نملك سوى الاحتساب والصبر فهذا الطريق هو نهاية حياة ابن آدم مهما طال عمره أو تقاصر.
في والدي وأخي وكل من مات من أقارب وأصدقاء وأصحاب وأحباب رحمهم الله كتبت ذات يومٍ مقالًا عنوانه ” يموتون وذكرياتهم بيننا لا تموت” نعم فما زرعوه فينا وأثمر بيننا لا يمكن نسيانه أو تجاهله فوالدي رحمه الله قضى أكثر من ثلاثين عامًا في العروج وأرجاء صبيا يحفر القبور ويُجهِّز اللحود للموتى مُحتسبًا الأجر والثواب لا يتقاضى مالًا أو مكافأةً على ذلك وشقيقي ” جابر ” رحمه الله تعالى ظل يرافقه في المقابر ويتعلم منه حتى أصبح معلمًا ماهرًا في حفر وتجهيز القبور وسندًا لوالدي حيث منحه الله بُنيةً جسمانية ساعدته ورفيقه ” سامي” في تحمل مشقة وتبعات أعمال الحفر ولكم أن تتخيلوا أن “جابرًا” هذا قد اعتاد مع رفاقه إعداد وتجهيز عددٍ من القبور دون لحد وقبل أن يغادر إلى مكة المكرمة لأداء العمرة ذهب مع سامي وبقية الرفاق للمقبرة وحفروا ثلاثة قبور أثناء غيابه دُفن ميت في أحدها وعندما مات في الليث أحضرنا جثمانه ليُدفن في القبر الثاني والذي بدأ حفره بيديه قبل وفاته بأيامٍ قلائل…. وفاة والدي التي أعقبتها وفاة شقيقي واشتراكهما في حفر القبور هي السبب في خلط السرد بين أسطر المقال فالحديث هنا عنوانًا وقصةً عن ” أبي” ومع تجدد الذكريات تواردت عباراتي ألمًا وحُزنًا على فراقهما لكنني سأعود للحديث عن أبي فهو المعني الآن بما أكتبه ولاحقًا ستكون لي وقفة مع ذكريات أخي الغالي.
دأب أبي رحمه الله على حثِّنا على الجد والاجتهاد في العبادة وبالذات الصلاة وكذلك على الدراسة ومواصلة التعليم ورغم فقره وظروفه المعيشية الصعبة إلا أنه كان يردد على مسامعنا مقولته الشهيرة ” سوف تتعلمون وتدرسون وأدفع من جهدي وعرقي لتلتحقوا بالمدارس فيكفي حرماني من التعليم ولن أحرمكم منه مادمت حيًا”… أعتز كثيرًا كون والدي رحمه الله كان دلالًا في سوق المواشي يكدح لأجلنا وفي الجانب الآخر يحفر القبور لوجه الله تعالى وعشنا سنين طويلة في كنفه وعطفه برفقة والدتي حفظها الله وكنا أسرةً واحدة نعيش بسعادة وسرور دون تنغيص حتى تعلمنا وكبرنا وأصبحنا سندًا لهما في عجزهما.
يتحدثون عن سهر الأب والأم على راحة أطفالهما وخاصةً عندما يمرض أو يتوعك لكنّ والدي كان يسهر دومًا لأجلنا بل ولابد أن يسهر لأن الماء في بيتنا والبيوت المجاورة كان ضعيفًا ولا يتدفق بسرعة عالية إلا عند منتصف الليل بعد أن ينام الآخرون ويغلقون صنابير الماء فيقوم والدي على متابعة تعبئة خزانات وأواني المياه في بيتنا كلما تذكرت تلك المعاناة وكيف ننعم ونهنأ نحن كل صباح بالماء أشعر بالأسى والحزن أكثر لتعبه رحمه الله… بعد وفاته عرفت من الجيران أشياء وأشياء أكثر بكثير عن مواقفه معهم وكيف ينعمون مثلنا بالماء عند سهر والدي فأستشعر عند ذلك شخصية والدي العظيمة هكذا تعلمت من أبي المزيد من التضحيات وحاولت تطبيقها في حياتي ومع أبنائي استمتعت بحياتي إلى جواره وتأدبت من أساليبه واكتسبت مكانةً كبيرة في حارتنا وماجاورها لقربي منه ومرافقته في زيارة المرضى وتقديم العزاء ومساعدة المحتاجين… نعم هكذا عاش أبي وعشتُ معه تفاصيل وذكريات رائعة ساهمت في تكوين شخصيتي وتنمية مواهبي وكم سعيت وسوف أسعى لتحقيق بعض مما تميزت به شخصيته العفوية التي أحبها كل من حوله.
للحديث بقية :
كتبت بعضًا من ملامح حياته وسوف أتفرغ لكتابة العديد من الحكايات التي حدثت معه وأتذكرها كما سوف أستعين بالعديد من الشخصيات التي عاشرته لتتحدث عنه وعن حكاياتهم معه وذلك عبر العديد من المقالات والتي ستكون مجتمعةً في كتابي القادم إن كتب الله لنا عمرًا مديدًا بحوله وقوته.
✍سالم جيلان أبويزيد