المقالات

حينما ينكسر الجناح الآخر

___
سئل أحدهم عن موت الأخ ؛ فقال : قصّ جناح ، وها أنا الآن قد قُصَّ جناحي ، وسبقه -قبل سنوات – جناحٌ قُصَّ أيضا ، فبالله عليكم كيف لطائر أن يحلق، وقد قُصَّ جناحاه؟!

كأنَّ والدَيَّ – رحمهما الله – عندما أسمياه “بشرى” ، يعلمان أنه سيكون “بشرى” لنا ، ولتطمئن به قلوبنا .

توفي أبي ، وكان قَدَرُ ” بشرى” أن يكون الأكبر بيننا ، فتحمّل المسؤولية ونهض بالعبء مع أمي ، ورفع جبهته للشمس ، وتلقى ضوءها ، واستمد منه طاقة ، تعينه على الصمود ، و على أداء الرسالة ، وهي رعاية إخوته الذين تيتموا، وقد شدَّ الله عضدنا به ، فكان أبًا وأخًا أكبر حقيقة.

بعد أن كبرنا ، وتفرقت بنا السبل ، وشط بنا النوى ؛ سعيًا وراء أرزاقنا، وعندما كنا نعود للديار في إجازاتنا ، تجده يتفقدنا ، ويتعهد أماكن نومنا ، وأوقات أكلنا وشربنا ، وكان يأتي لنا بالطعام والشراب إلى أماكننا ، يحمله بنفسه، وهو أكبرنا .

كان حمامة مسجد ، لا يتأخر عن صلاة ،ولا يتوانى عن فرض ، تجده في كل أتراح المدينة وأفراحها ، مشاركا ومشاطرا وداعما ومحفزا؛ فقد امتد فضله للجميع ؛ فكم من أرملة ستفتقده ؛ لأنه كان يتفقدها ، ويقوم بخدمتها ، وتلبية احتياجاتها ، وكم من يتيم سيعاني بعده ؛ لأنه كان أبا له ، يعينه ،ويساعده، ويدبر شؤونه ،ويدير أموره ، وكم من أسرة ستذكره ؛ لأنه كان سببا في استقرارها .

سيفتقده الأهل جميعا ، فكان يسافر إلى كل البقاع لحضور زواج أو شهود عزاء أو عيادة مريض ، وكان يحمل الكَلَّ ، ويعين المحتاج، ويساعد المسكين، ويهدي الحائر ،ويرشد الضال ،كان أخًا لأترابه ، وأبا للصغير ، وابنا للكبير .

كنت أدرك أنه لن يبقى كثيرا بعد وفاة الوالدة ، فقد كان شريكها في تربيتنا ، و مساعدها في تدبير أمورنا ، بعد وفاة الوالد، كان ملازما لها ، وكان حزنه على فراقها لا يضاهيه حزن، فكان أوّلَنا لحاقا بها ، فاجتمعت روحاهما سريعا.

تعلمنا منه الرجولة في أسمى معانيها ، فكنتُ – وأنا صغير- أقلده في أشياء كثيرة ؛ لأنه كان أنيقا نظيفا شهما شجاعا كريما.

كان – ونحن صغار- يهتم بتهذيبنا ، وتربيتنا، ويقف على أمور دراستنا ، ويتابع ذلك ، ويهتم بتفاصيل تعليمنا ، ويقسو علينا إن أهملنا دروسنا أو أخطأنا ، وكان يقسو قسوة باطنها فيه الرحمة :

نقسو ليزدجروا ومن يكُ حازما
فليقسُ أحيانا على من يرحم

كان مهاب الجانب ، يكفي إطلالته من بعيد في بداية الطريق ، ليعتدل المتكئ ، ويقف الجالس ،ويهدأ الهائج، ويكف الضاحك ، ليس لظلم منه، وإنما لمهابة غرسها الله في قلوب الآخرين تجاهه .

كان لا يأكل إلا قليلا ، ولا ينام إلا يسيرا ، ولا يتكلم إلا نزرا، كان صبورا حتى عجز الصبر عن صبره ، لم يئن ولم يكل ولم يمل ، حتى في أحلك الظروف ، وأشد الأزمات ، وأفظع الآلام.

دم بخير أخي ، فأنت سعيد – الآن – برفقتك والديك وأخاك، ولكن الفاجعة لدينا كبيرة ؛ فمكانك لا يشغله أحد ، وصدعُ فراقك لن يُرأب، وثغرٌ أنت سددتَه طويلا، سيظل مكشوفا كثيرا.

توفي ، وعمره ثلاثة وستون عاما ، وهكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان أبوبكر وعمر وعلي رضي الله عنهم ، اللهم ، كما اشترك معهم في عمر الوفاة ، فأشركه معهم في المنزلة والجوار في جناتك.

سلام عليك أخي الأكبر وأبي الثاني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخوك المفجوع وابنك المكلوم
طارق يسن الطاهر
الطائف
8ديسمبر 2021

 

مقالات ذات صلة

إغلاق