المقالات

التفاتة

بقلم الكاتب : محمد الرياني

شيء من الخوف يحيط بالمكان على الرغم من بياض المساحات، الطرقات كلها ملساء بيضاء كأنها تقول لاداعي للخوف،في المدخل الآتي من الشرق توجد بوابتان من الزجاج المتين ، اجتاز البوابة الأولى رجلٌ قمحي البشرة تبدو عليه علامات التعب والإرهاق وشيء من الأناقة، ظلَّ يدور ويسأل عن مخرجٍ أو موظف يجدُ له حلًّا، أشاروا عليه أن يجتازَ البوابة الثانية ويسألَ عن أحمد ، فعل ذلك وأنا أتبعه، سأل عنه ، قال له وهو ينظر إليه وصلتَ، أنا هو، بدا الموظفُ في غاية الأناقة واللباقة، شرح له مشكلته، رفع سماعة التلفون المنصوب عن يمينه على الرغم من كثرة المراجعين حوله، تحدث بهدوء واتزان مع القسم الآخر، هل يوجد لديكم رجلٌ اسمه…، اشتد الحديث، يبدو أن الحوار أخذ منحىً آخر، قال له :اذهب إلى القسم وستجد هناك الخبر ، خرج من الغرفة وأنا أقف مع المنتظرين، رمقني بنظرة عكس اتجاه وجهه وهو يسألني عن شكواي، لم يدعني أكمل، الحق.. الحق، اتبعِ الرجلَ الذي كان هنا خرجتُ وأنا أتعجب ، بعدَ الباب الزجاجي الأول في طريق عودتي تصطفُّ مجموعةُ مكاتب عن اليسار، من عادتي رفعُ يدي لأسلّم وأحيي أصحاب القمصان البيضاء والزرقاء ، المكتبُ الأول به اثنان أو ثلاثة، رأوني أركض بخفة، سلامات.. سلامات، هل من خدمة؟ هل تريد مساعدة؟ شكرتهم وأنا أجري خلف الرجل صوبَ المكان ، يبدو أنني لن ألحق به، بجوار المكتب الثاني عن اليسار، تذكرتُ أنني تعرفتُ على رجل اسمه “علي” كان يلطّفُ عليّ الجو بأحاديثه وذكرياته وطرائفه، صحتُ فيهم :هل تعرفون واحدًا اسمه “علي” كان يعمل هنا، علي من؟ لا نعلم، قال أحدهم علي…. وقال الثاني علي، علي……..، رددتُ أنا أحفظُ اسمه الثنائي، قالت واحدة وهي تحمل أوراقًا وتتكيء على الجدار من التعب : هل تقصد ” علي” وجعلت ترفع كفها المقلوبة وهي تتهادى إلى أعلى لتتجاوز طولي، قلتُ : هو هو هو هو ، تركتُ موضوعي الذي جئتُ من أجله، شكرتُها واتجهتُ شرقًا صوبَ البوابة الخارجية للقسم، سألتُ عنه فدلوني على طريق ضيق ، ظللتُ أضحك، هل من المعقول أن يدخلَ عليٌّ من هذا الباب؟ سألتُ عنه في أول مكتب فقيل لي في آخر مكتب عن يسارك، دققتُ الباب، قال : ادخل، لم أصدّقْ أنه بهذا الحجم، حركتُ يدي مستغربًا فقصَّ لي قصته وكيف صار نحيلًا، سألني عن موضوعي فشرحتُه له، اتصلَ كعادته وهو يضحك مع الطرف المقابل، هل تريد شيئا آخر؟ هززتُ رأسي نعم، عمُّك فلان وسميتُه له بحاجة إلى المساعدة أكثر مني، نهض وسحبني بيدي إليه، الآن أجعلهم ينهون موضوعه، في الطريق اتصل على أحدهم، كان يتحدث بثقة بينما صوت الطرف المقابل يكاد يخترق سماعة الهاتف، التقطتُ من الحوار أن الموضوع قد تم، مشينا نحوه، وجدناه يبتسم وأوراقه بين يديه، أصرَّ على أن أعود معه ، قلتُ له في الطريق لا أريد إشغالك عن عملك، قال: لا عليك، دخلنا مكتبه، ظلَّ يحدثني وأنا مطرقٌ سمعي، دخلتْ علينا بثقة إحدى الموظفات، رمقتني بحزم ، هذا هو الذي أشغلتنا بالسؤال عنه، قلتُ لها: هذا هو، ضحك وطلب منها أن تتركنا، أكملَ لي واحدة من حكاياته التي اعتدتُ عليها، عند الوداع قال لي  عند الباب : أتعلمُ أن هذه الموظفة جاءتْ لتسأل عنك وماذا صنعتَ؟ وصفتْ واحدًا بمثل أوصافك، قلتُ له: هل تصدق؟ لقد أردتُ ًأن أسألك عن واحدة تحمل أوراقًا وهمومًا ، ضغط على يدي بعنف وهو يضحك ، شكرتُه وطلبتُ منه أن يشكرها، غادرته ولاتزال أوراقها ووقفتها المتعبة مرسومة في عيني.

مقالات ذات صلة

إغلاق