المقالات

تحليل سياسي.. بايدن وقمة جدة: استراتيجيات الواقعية السياسية..

كنانة ربيع دحلان*

رغم الجدل المعرفي والتباين النسقي الذي يخيم على خطابي المثالية (الليبرالية) والواقعية السياسية اللذين تسيَّدا المشهد الأوروبي والأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية وتأثير كل منهما في العلاقات الدولية من خلال حزمة من المُحدِّدات التي ترسم السياسات الخارجية، إلّا أن الجولة التي قام بها الرئيس الأمريكي بايدن وحضوره قمة الأمن والتنمية في جدة جاءت تجسيداً للفلسفة الواقعية في السياسة التي تضع الدول من خلالها أمنها ومصالحها الوطنية على رأس أولوياتها، لتكون أحد اللاعبين الرئيسيين في الساحة الدولية.
تلك المزاوجة بين السياسة والواقعية تعني أن جدلية المثالية في المدرسة الأمريكية تسير الى أفولٍ أمام استراتيجيات المصالح وواقعيتها.
ولعل ما أثارته المؤرخة الأمريكية جانيس تيري في مؤلفها الشهير “السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط” حول تياري الواقعية والمثالية يؤكد تغليب أحد التيارين في اللحظات المصيرية للجمهورية الأمريكية.
جنوح بايدن للواقعية السياسية (Political Realism) جاء ليؤكد فشل المثالية الليبرالية (Idealism) في تحقيق المصالح الأمريكية العليا خاصة بعد سلسلة التصريحات الصاخبة التي تعهد فيها بايدن للرأي العام الأمريكي بأن يجعل السعودية دولة (منبوذة)، بعد مسرحيات حزبه السابقة التي كشفت سوء تقدير الأمور في علاقة أمريكا مع الرياض في عهد الرئيس الأسبق أوباما الذي أنعش (الفوضى الخلاقة) ودعم (الإخوان المسلمين) في عدد من الدول العربية في معترك الربيع العربي، ثم أبرم الاتفاق النووي مع إيران، وهو خطأ استراتيجي تجاهل مُشرِّعوه العواقب غير الحميدة على أمريكا في تجاهل مصالح دول المنطقة، كما تجاهلوا ثقل القرار الذي يُصنع في الرياض باعتبارها أحد اللاعبين الأساسيين على المضمار الدولي.
فهل كان الأمر خياراً مطلقاً لساكن البيت الأبيض أم أن هناك من أدرك حتمية تصحيح المسار تجاه الخليج العربي والشرق الأوسط؟!.
اياً كانت مسببات القرار (الخيار)، فإنه يدور في فلك الرؤى التي أسس لها عرّاب الواقعية الأمريكية (هنري كيسنجر) الذي يسجل له التاريخ الأمريكي قدرة عجيبة في التعاطي مع (ميكيافيلية) الأفكار المتسقة مع المصالح الأمريكية.
لقد جاء مقال بايدن في (الواشنطن بوست) الذي يبرر فيه أسباب زيارته للسعودية ليؤكد من جديد أن استراتيجيات المصالح هي الأولوية في العلاقات الدولية، حيث قال: “كان هدفي من البداية هو إعادة توجيه العلاقات مع دولة كانت شريكاً استراتيجياً لمدة 80 عاماً”، فهو يدرك تماماً أن مرحلة جديدة من الاستقطابات الدولية تسير على قدم وساق وأن هناك دُباً روسياً وتنّيناً صينياً يترقبان النسر الأمريكي ويتربصان به الدوائر، وأن المنطقة صارت حجر زاوية في مواجهة محاولات الاستئثار بها من قبل قوى إقليمية تسعى لفرض هيمنتها وزعزعة أمن المنطقة من خلال ميليشياتها المتعددة، بما يشكل تهديداً صريحاً للمصالح الأمريكية..
لذا جاءت الواقعية السياسية للبيت الأبيض لتستحضر نصيحة كيسنجر لأوباما (النموذج السياسي لبايدن) بأن لا يفرط في أي مربع نفوذ في منطقة الخليج والشرق الأوسط، وهو ما أعلنه بايدن صراحة خلال القمة.
وفي المقابل جاءت الواقعية السعودية متّشحة بمنهجية شاملة تتعاطى من خلالها مع حزمة من الملفات وفق سياسة متأنية تقوم على التوازنات وتحقيق المصالح، وقد تجلى ذلك في البيان السعودي الأمريكي المشترك الصادر عن القمة السعودية الأمريكية والذي أعلن من خلاله عن توقيع الدولتين لثماني عشرة اتفاقية ومذكرة تعاون في مجالات الفضاء والاستثمار والطاقة والاتصالات والصحة وغيرها.
جاءت الواقعية السعودية متحليةً بالمصداقية والمصارحة التي تجلَّت في رد سمو ولي العهد على بايدن حين أثار موضوع مقتل خاشقجي مؤكداً له أن ما حدث أمر مؤسف وأن المملكة اتخذت جميع الإجراءات التي تمنع حدوث هذه الأخطاء وأن مثل هذه الحوادث تحدث في كل مكان، مُذكِّراً بايدن بأخطاء أمريكا في سجن أبو غريب وغيره، وأن المطلوب هو تعامل هذه الدول مع تلك الأخطاء وضمان عدم تكرارها، مشيراً الى حادثة اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة (الفلسطينية الأمريكية)، متسائلاً سموّه عما قامت به أمريكا ودول العالم من إجراءات بشأنها!!
لقد جاءت الواقعية السعودية في صراحة ردِّ سموِّه على بايدن حول القيم المشتركة، مؤكداً ان لكل دولة قيمها التي ينبغي احترامها، وأن محاولة فرض القيم الأمريكية على الدول الأخرى له نتائج عكسية، وأننا لو افترضنا أن أمريكا ستتعامل مع الدول التي تشاركها القيم والمبادئ 100% فلن تجد من تتعامل معه سوى دول الناتو!!
جاءت الواقعية السعودية في دعوة سمو ولي العهد في كلمته الافتتاحية إلى ضرورة تضافر الجهود لتحقيق التنمية المستدامة لدول العالم قاطبة، ورسم مستقبل مشرق لشباب وشابات المنطقة ليقدموا للعالم قيمنا النبيلة التي لن نتخلى عنها، والتأسيس لعهد جديد من التعاون المشترك، وتحديد السقف الأعلى للإنتاج النفطي السعودي عند 13 مليون برميل يومياً، وحل القضية الفلسطينية وتقديم حلول للأزمات الأخرى كأزمتي سوريا وليبيا، ودعوة ايران لأن تكون جزءاً من رؤية المنطقة، ودعم جهود الوصول لحل يمني- يمني.
جاءت الواقعية السعودية من خلال محطات قطارها التنموي الذي تمضي معه في رحلة بناء ونماء غير مسبوقة، ساعية عبر رؤية تنموية فريدة الى إحداث تحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية وفكرية، تتماهى مع متطلبات المرحلة وما يحقق مستهدفاتها الاستراتيجية في ظل موقع المملكة الجغرافي وقوتها الاقتصادية وقيمتها الدينية والروحية.
ولتبقى السعودية هي الرقم الصعب في المعادلة التنموية العالمية التي تستلزم الواقعية الحفاظ عليها كصديق يقترب منه الجميع في المنظومة الأممية.
وفي المحصلة.. فإن الحسابات أثبتت أن السياسة لا تعرف العواطف والشعارات الحماسية، بل تعرف قراءة الواقع وموازين القوى الفعلية والمصالح الآنية والمستقبلية، وأن البوصلة الوحيدة التي توجه الدول في الوقت الراهن هي بوصلة المصالح السياسية والاقتصادية في ظل تداعيات عدد من الأزمات والتقلبات العالمية التي لا تكاد تنتهي.

*رئيس عمليات شركة إيدلمان بالمملكة -خبيرة التواصل الاستراتيجي

 

مقالات ذات صلة

إغلاق