المقالات
الشقراء
محمد الرياني هكذا وجدَ نفسَه حبيسَ الكرسيِّ المتحركِ في الدولةِ الاسكندافيةِ شديدةِ البرودةِ ، أمُّه عندما كان صغيرًا تنظرُ في عينيْه وكفُّها على شعرِه الأصفرِ الكثيفِ تقول له كأنَّ فيكَ عرقًا خارجيًّا، لم يلتفتْ كثيرًا لكلامها ولم يحسبْ له حسابًا ، ملامحُه وشعرُه الأشقرُ المذهبُ وعيناه الزرقاوين الحادتين وقامتُه الممتلئةُ وذكاؤهُ ونجابتُه قادتْه ليدرسَ الطبَّ في البلادِ التي لاتزورُها الشمسُ إلا لإذابةِ بعضِ الثلجِ ولكنها لاتعوضه عن شمسِ الصحراءِ التي ركضَ كثيرًا على ترابها الأصفر ، تعرَّفَ في أولِ يومٍ من دراستِه على فتاةٍ تدرسُ التخصصَ نفسه ، لم تصدقْ أنه قدِمَ من أرضٍ سكانُها بملامحَ صحراويةٍ وعيونُهم دعجٌ كلونِ الظلامِ عندهم، ازدادتْ قربًا منه كل يوم، فازدادَ قربًا منها، حديثُها العذبُ وأناقتُها، رائحةُ عطرِها وثقافتُها العاليةُ حتى عن بلادِ المشرقِ شجعتْه على ذلك ، دعتْه يومًا في نهارٍ مشمسٍ بالنسبةِ لهم في آخر الأسبوعِ إلى رياضةِ التزلج ، وضعَ يدَه على رأسِه وقال لها باللغةِ الانجليزيةِ لم أمارسْ هذه الرياضةَ في حياتي على الرغمِ من أنني شاهدتْها كثيرًا في الألعابِ الشتويةِ عبر التلفاز ، قرَّرَ أن يذهبَ معها على الأقلِّ ليشاهدَ التزلجَ رأيَ العينِ إذا لم يمارسْ اللعبة، أحضرتْ معها أدواتِ التزلجِ له ولها بما فيها الملابس، بدأتْ تتزلجُ وهو يتفرجُ عليها وعلى مَن هم على شاكلتِها، دبّتْ فيه الغيرةُ وهو يرى سطحَ الثلج ، انطلقَ بينهم متحمسًا كي يثبتَ لهم مقدرتَه وسطَ صيحاتِ التشجيع، كانت تقتربُ منه وتشيرُ له بأن يكونَ أكثرَ أناةً كونه في البداية، حرَّكَ رأسَه منتشيًا بالموافقة، فجأةً حدثت الكارثةُ التي جعلتْه طريحَ السريرِ الأبيض ، لم تعتدْ رجلاه الركضَ على الجليدِ فوقعَ على ظهره، ابتعدتْ عنه زميلتُه الشقراءُ من أجلِ دراستِها العلمية، أمضى عدَّةَ أسابيع لا يتحرك ، بقيَ حبيسَ العربةِ المتنقلة ، ثم بدأ يستعيدُ بعضَ توازنه شيئًا فشيئا، سعى لأن يَدرسَ ليلَ نهار ليعوِّضَ مافاته، عاد الدفءُ إلى أطرافِه أكثر ، رأى بخيالِ عينيه الزرقاوين رمالَ الصحراءِ ووجهَ أمِّهِ التي كانت تُشبِّههُ بأهلِ الأرضِ التي تعثَّرَ فيها وسقطَ على ثلجها، مضتْ الأعوامُ ثم حازَ الدرجةَ العلميةَ في الطب، تركَ لوحيْ التزلجِ والعربةَ المتحركةَ وعاد بشهادتِه ليركضَ على الرمل، شرحَ لأمِّهِ قصةَ الشقراءِ والتزلج ، أمسكتْ بيده نحوَ البطحاءِ في الوادي القريب ، قالت له بأنها كثيرًا مالعبتْ بثرى الأرضِ وهي صغيرةٌ وكلما سقطتْ تلقَّفَ لها الترابُ ليحميَ ساقيها، تبادلتْ معه الضحكات ، قالت له إنَّ ابنةَ خالتِه تنتظره ، قد تختلفُ عيناها عن عينيْه ولكنَّها ربما تنجبُ له عيونًا زرقاءَ وسودًا أيضا.
|