المقالات
البئر
محمد الرياني
استقرَّتِ الدَّلوُ في قعرِ البئر ، هزَّها السَّقَاءُ مرتين حتى تأكدَ من امتلائها ، كانا ينتظرانِ طرفَ الحَبلِ ليجرَّانه والبكرةُ التي تسهِّلُ مهمةَ السحبِ تعلو رأسيهما حتى يَخرجَ الماء، ظهرتِ الدَّلوُ والماءُ يَطفحُ من جوانبها، غفلتْ عن الإمساكِ بالطرفِ والآخرُ الصغيرُ بجانبها، قال لابنته: ساعديه فليسَ معكِ غيره إذا كبرتِ وأصبحتِ عروسًا، نظرَ كلُّ واحدٍ في وجهِ الآخر ، تأمَّلَ وجنتيْها بحمرتيْها الرائعتين ، أغمضَ عينيْه وكأنه يرى حمرتيْ وجنتيْه، جرَّا الرِّشا للنهايةِ حتى اطمأنَّا أنَّ أباها قد أمسكَ بالدَّلو، صاحَ بفرحٍ يدعو لهما بالعافية ، عادا من جديدٍ يكرِّرانِ سحبَ الدَّلوِ وهما يضحكانِ وينظرانِ في وجهِ بعض ، ذهبَ خيالُه بعيدًا ينتظرُ الشبابَ لتكونَ عروسَه، كبرتْ فحجبوها عن ورودِ الماءِ ولاتزالُ صورتُها في خيالِه، اشتدَّ عودُه وقويَ ولم يحتجْ للمساعدةِ في جلبِ الماءِ من باطنِ البئر، غابَ أبوها لعجزِه عن الورود ، تكفَّلَ بالسُّقيا بمفردِه على البكرةِ المعلقةِ ذاتِها وحوله طالبو الماء ، بقيَ يجرُّ الرِّشا ليخرجَ الدلوَ وحدَه ثم يُنشبه في الوتدِ ويعودُ ليمسكَ بالدلوِ ليفرغَها، ظلَّتْ عينُه على الماءِ ليتخيَّلَ صورتَها في الدَّلوِ فيتأخرَ عن صبِّه في الجرارِ الفخارية، يعودُ ليسحبَ الرِّشا من جديدٍ فيراها في طريقه وهي معه تضحكُ ضحكةَ الطفولةِ ، جاءَ يومٌ من الأيامِ فأسقطوا عُرُشَ البئرِ فوقَ حوافِّها ودفنوها وانقطعَ نهيقُ الحميرِ التي تحملُ الجِرارَ فلم يُسمعْ لها صوتٌ بعدَ انقراضِها، مرَّ في ليلةٍ حالكةِ السوادِ فرأى عقودَ مصابيحِ الزينةِ على دارِها، قالوا له : الليلةَ زواجُها، نظرَ إلى الأنوارِ فانشقَّتْ المصابيحُ عن ابتساماتِها وحركاتِها، ماتَ أبوها قبلَ عرسها ، عاد إلى البئرِ يسترجعُ وعدَ أبيها وهو يقفُ من أجلِ الماءِ معها، سمعَ من باطنِ البئرِ أصواتًا غريبة، أطلقتْ بومةٌ صوتًا مُفزِعًا، تعثَّرَ في الوتدِ الذي كانا يَصِلان عنده لإخراجِ الدلوِ فجلسَ يُمرِّغُ قدميْه ، ظلَّ يَستمعُ لِلَيلةِ عُرسِها على الطِّين.