المقالات
أيُّ حَرَاكٍ هذا يا جامعةَ الطائف
بقلم: الأستاذ عبدالعزيز قاسم
إعلامي وكاتب صحفي
بمجرَّد أن صعد الدكتور يوسف عسيري رئيس جامعة الطائف المنصَّة؛ لإلقاء كلمته في حفل تدشين نادي الإرشاد السياحي بالطائف، الثلاثاء الفارط؛ إلا وانثالت إلى الذاكرة صورة تسمُّري -قبل عامين- جذلًا، أمام لوحتين رخاميَّتين فاخرتين، فيهما معلومات عن الطائف ومسجد “ابن عباس”، معلَّقتين على جدار مكتبة المسجد التَّاريخية، ومذيَّلتين بأنهما إهداءٌ من جامعة الطائف.
وقفت طويلًا أمام اللوحتين، وتأخَّرت عن رفقتي؛ والذكريات تنثال عن المكان، وتعود بي إلى مرحلة اليفاعة في منتصف السبعينيَّات الميلاديَّة بمدينتي الأجمل الطائف، حيث كنا نهبُّ -أخي الأكبر عبدالحفيظ وأنا- إلى تلك المكتبة العتيقة التي تحمل تأريخًا طويلًا يمتد لـ 900 عامٍ، إذ بمجرَّد دخولك القاعة وقتذاك؛ ستهولنَّك المخطوطات القديمة المتراصَّة على الأرفف المُترَبة، وتزكمك رائحة أمهات الكتب المغبَّرة، دعك من تلك الإضاءة الخافتة التي لو دلفَ إليها جيلُ اليوم؛ ستنتابه قشعريرةُ خوفٍ، ويظنُّ المكتبةَ من غرفات “هاري بوتر” المسكونة بالأشباح، سيَّما وأنَّ بابًا خلفيًا لها يُشرف على قبورٍ قديمةٍ ملاصقةٍ للمكتبة! بيد أننا لم نك نملك سواها -كمرتادين صبيةٍ- حينئذ، حتى فُتحت “المكتبة العامة” التابعة لوزارة التعليم في حيِّ “السلامة”؛ لنهجرَ من فورنا هاته المكتبة ذات الطابع الأثري، ونتجه لتلك الحديثة الرائعة.
وأمضي سادرًا في استمطارٍ تلكم الذكريات، وقد شكرتُ -حينها- لجامعة الطائف قيامها في عصرنة مكتبة “ابن عباس” وتزويدها بالحواسيب الحديثة، وإعادة تنظيمها وترتيبها؛ ما جعلني ذاهلًا كذلك، وأنا أحاول -عبثًا- أن أجد ما يربط هاته الحديثة، بتلك العتيقة التي كنا نرتادها إبَّان اليفاعة.
فجأةً ينقطعُ شريط الذكريات هذا، وأنا أستمع لمدير الجامعة الدكتور عسيري الذي كان يتحدث بعفويةٍ تامةٍ، ويرتجل كلماته التي تتغلغل مباشرةً إلى آذان حضور حفل التدشين الآنف، وتُستوفز حواسِّي كلها، عندما أعلن عن مبادرةٍ رائعةٍ ومهمةٍ، جعلتني أنخلع عن ماضييَّ الجميل؛ لأستمع له وهو يقول بتصدُّر جامعته برصد كل ما كُتب عن الطائف تأريخيًا وجغرافيًا وأدبيًا، وتكوين لجنةٍ علميةٍ -مكونةٍ من أكاديميين متخصصين وباحثين- تقوم بتحقيق أسماء الأماكن والمواقع وجمع الأقوال التي قيلت؛ بغية توحيد الروايات واعتماد الأقوى منها، إذ غلبت -في مجتمع الطائف- رواياتٌ وأسماءُ ما يتناقله بعض العامة من الذاكرة الشعبية التي لا أصل لها في معظمها، أو ما قال به بعض الكتبة والإعلاميين من أقوال ضعيفة فَشَت وعُمِّمت؛ بسبب سطوة وتأثير الإعلام من جهة، وغلبة النقولات الشفاهيِّة المتوارثة على حساب الأصل التاريخي أو القول الأقوى.
حمدتُ لجامعة الطائف هاته المبادرة، وقد لمستُ بحقٍّ خلال السنوات الثلاث الفارطة؛ دخول الجامعة في صميم المجتمع بعروس المصائف، وهو هدف هاته المقالة، فأنا رجلٌ محبٌّ لمدينةِ ولادته ونشأته، ولا يمرُّ شهرٌ إلا وآتي هاته العروس، وهمهمتُ في نفسي وأنا أستعيد ما قاله في ذات المنصَّة الدكتور متعب القثامي -الأكاديمي المتعاون بنادي تاريخ الطائف- بأن رئيس الجامعة بات “أيقونةً طائفيةً”، والطائفُ يَحمدُ له شعار: “جامعةٌ بلا أسوار” وقد حقَّقها عبر مبادراته المجتمعيَّة، لينهي الدكتور القثامي كلمته عن مدير الجامعة بتأكيده أنه ترك بحراكه المجتمعي والعلمي بصمةً في تأريخ الطائف.
انسللتُ من ذلك الحفل كعادتي، فقد تشبَّعت من اللقاءات على مدى الـ35 عامًا في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة، واستديوهات الإعلام، وأروقة الأندية الأدبيَّة، وهاتفتُ -من فوري- صديقًا عزيزًا أسأله عن جامعة الطائف، وهذه الريادة اللافتة لها، والحَراك الذي تغلغل حتى وصل الأوساط الشعبية، فأجابني وهو -أحد أكاديميي الجامعة- بطلبه ألا يظهر اسمه؛ كي تكون لشهادته مصداقيةٌ، وأرجع أن أحد الأسباب الكبيرة في هذا الحَراك أن الدكتور يوسف عسيري سكن الطائف وبقي فيها، عكس من سبقوه؛ لذلك تراه في نهايات الأسبوع في مجالس المدينة وصوالينها، مختلطًا مع فئامٍ شتَّى، فيستمع لشرائح اجتماعية ويُنصت، ويفاجئنا بمبادراتٍ لم تخطر في البال، كلها تدمج الجامعة في صميم المؤسسات المجتمعية.
اعترضتُ -بحسِّ الإعلامي- على الصديق، وأنَّ هذا الحراك المجتمعي للجامعة سيكون على حساب دورها الرئيس في التحصيل العلمي، وما تقوم عليه جامعات الدنيا، فأجابني ضاحكًا: “في دمك الإعلام والمشاكسة! ولكن أجيبك، وأنت تعرف ندرة ثنائي على أي أحد وبُخلي في الحديث، بأنَّ الأرقام فيصلٌ بيني وبينك، وإنْ تمهلني؛ سأرسل لك الليلة قائمةً بأهم الإنجازات التي تحققت خلال الثلاث سنوات التي مضت، والحقُّ أنَّ الرجل شعلةُ نشاطٍ لا يهدأ، وفي جميع الاتجاهات، ولكن سأبدأ لك بأن المرأة في عهده تسنَّمت مواقع قيادية، وأعطاها الفرصة بشكل كبير، بل إنَّ أول مشرفةٍ لإدارة العلاقات العامة على مستوى جامعات المملكة، كانت من جامعة الطائف”.
لفتَ صديقي نظري إلى موضوع المرأة، وقفزت أسماءٌ عُرفت بتميزها العلمي والقيادي اللافت، فكنَّ علاماتٍ في هذا الحَراك للجامعة، فهناك الدكتورة عبير العبيدي المشرفة على شطر الطالبات، والدكتورة خديجة أبو النجا رئيسة برنامج الموهبة، والدكتورة هند الجعيد عميدة المكتبات، والزميلة الناقدة الدكتورة أمل القثامي رئيسة قسم اللغة العربية، وغيرهن كثير، يتألَّقن في أدوارهن اليوم ويُبدعن.
صديقي تحمَّس معي، ولا أدري عن سبب حماسته، وأنا أعرف والله طبعه الطائفي الصعب، ولطالما تهكَّمت عليه بأن جبال “الهدا” و”الشفا” الصُلد؛ أثَّرت فيه ومشاعره، وفوجئت بعد ساعةٍ بقائمةٍ طويلةٍ من الإنجازات لجامعة الطائف؛ حِرتُ كيف أسردها هنا، فقد حصلت جامعة الطائف على أفضل عشر جامعات سعوديةٍ ضمن تقييم (webometrics) عام 1442هـ، وحققت الجامعة إنجازًا علميًا بدخولها في تصنيف (QS) العالمي في عام 1443هـ، وحصلت الجامعة على تقييمٍ ضمن أفضل الجامعات على مستوى العالم وفقًا لتصنيف (شنغهاي) العالمي العريق للعام 2023، وذلك بتحقيقها المركز ٢٨٩ عالميًا والمركز الرابع محليًا، وأصبحت الجامعة ضمن أفضل عشر جامعات سعوديةٍ لعام 2024م، وغيرها من الإنجازات التي أربَت على عدة صفحاتٍ كاملاتٍ، معظمها يصبُّ في مجالها العلمي، لأهاتفَ صديقي وأقول له مستسلمًا: “صدقت، والأرقام دحضت اعتراضي، وهنيئًا لكم بالجامعة ورئيسها”.
هاتفتُ -أخرى- الدكتورة الخلوقة لطيفة العدواني رئيسة مركز تأريخ الطائف، أسألها عن هذا الحَراك المجتمعي للجامعة، فأجابتني أنَّ مدير جامعة الطائف نجح في تحويل الشعار الذي وضعه؛ بمدِّ مناشط الجامعة لخارج أسوارها وتجاه المجتمع؛ محاولةً منه لنقل الخبرات العلمية فيها إلى المجتمع كافةً، وربما أهمُّ سببٍ في نجاحه؛ التواصل الدائم بينه وبين سمو محافظ الطائف الأمير سعود بن نهار بن سعود بن عبد العزيز -حفظه الله- في جميع أنشطة الجامعة العلمية وفعالياتها المجتمعية، فهذا التكامل بين الإمارة والجامعة أدَّى لما شاهدته أخي عبدالعزيز”.
لا أملك سوى الدعاء لسعادة مدير جامعة الطائف، ولا شك بأن هذه الإنجازات تقف قياداتٌ وسواعد وهِممٌ خلف د. عسيري في تحقيقها، لا يستغني أيُّ مديرٍ فاعلٍ عنهم، فهم الجنود الذين يعملون ويُحققون له الشعار والأهداف، وربما كان مركز تاريخ الطائف وأكاديمية الشعر العربي -يشُرف عليه الصديق الدكتور منصور الحارثي- هما جناحا الجامعة في الخروج للمجتمع من خلال نشاطاتهما العلمية والثقافية والمجتمعية، فضلًا على أسماءَ عديدةٍ أسمع بها وأنا خارج دائرة الجامعة وأعرف بعضها شخصيًا، فهناك شخصيات للمثال لا الحصر، مثل الدكتور حمزة الباحث مستشار مدير الجامعة، والدكتورة ولاء الصانع مشرف البحث العلمي، والدكتور مازن الحارثي عميد كلية اللغة الآداب، والدكتور عزيز العتيبي عميد الجودة والتطوير، والدكتور مسفر المالكي مدير وحدة الوعي الفكري، وثلة رائعة من القياديين، ربما فوَّتُ بعضهم وهم الأهم والأكثر حرَاكًا، بيد أن هاته الأسماء هي من سمعتُ بها، وأنا الإعلامي من خارج أسوار الجامعة.
حَرَاكٌ مذهلٌ، واندماجٌ مجتمعيٌ، وريادةٌ علميةٌ، وتحقيقٌ لأهداف الرؤية، وتكاملٌ مع الإمارة.. هو ما عليه اليوم جامعة الطائف التي لا تتثاءب أبدًا.
وأودعكم بهاته الطرفة عن جيلنا، من حيث ما بدأت به مقالتي، من مكتبة “ابن عباس”، وقد حفظنا أبياتًا كنا نتسارَرُ بها إذَّاك، تحكي فخرنا بالطائف، والأبيات من قصيدة لفؤاد الخطيب، بيد أننا كنا نراها فاحشةً، وأقرب لنزار قباني.. يا لجيلنا الطيب العفيف!
أنا في الطائفِ أستوحي الشعورْ
إنَّ في الطائفِ بعثًا ونشورْ
ولقد حدَّثني رمَّانُها
أنَّه كان نُهودًا في الصدورْ
ورَوَى ليَ البانُ عن أعطافهِ
أنَّه كان قُدودًا وخصورْ