المحليات

ذاكرة صيفية” للكاتبة والمبدعة الإستاذة وفاء سالم الحنشي

 

ة

حين أخذت ميثاقا على نفسي بأن لا أغدو أنثى ثلاثينية مكررة لنساء حارتي، ولا أشبه شخصية أي أنثى في أسرتي ولا تربطني علاقة وثيقة مع كل نساء قبيلتي لم أتصور إطلاقا أن تظل ذاكرتي سجينة لحقبة ظننت بسذاجة فتاة مندهشة من العالم الذي رأته حينها من سور مزرعة منزلهم بأن ذاكرتنا ستنسى كل شيء، لذلك وأنا إبنة العشر أعوام تجرأت حينها من الخروج عن المألوف عني بأن تسلقت جدار المزرعة عبر الدريشة التي تظل على الساحة الخلفية للمنزل، كانت رؤيتي الأولى لها ولكراج الناحلي الممتلئ عن بكرة أبيه بالسيارات والهنود والبنجالية والفئران الضخمة التي لم يسبق لي رؤيتها إلا في أفلام الكارتون كان اكتشافا عظيما لطفلة حدودها باب البيت وباب المدرسة..
حينها قلت :يا وفاء هذا عالم جديد لك عبئي ناظريك به، واكتبي عنه في كشكولك الأسود الذي تخبئيه بين درج ملابسك الوحيد، وكم تمنيت حينها لو كان لي دولاب كامل أو مفتاح لنص دولاب..
اذكرني أمشي بخطوات مرتجفة على سور المزرعة وأذكر جيدا نظرات الهندي الذي كان يقف على سطح الكراج وفي يدة موس حلاقة يمرره على ذقنة الملطخ بمادة بيضاء.. حينها مشيت بتذبذب حتى وصلت للجانب الذي تقف فيه نخلة الجدمي شامخة وبخوف تسلقتها وبدأت بإمساكها بنفس الطريقة التي أمسكت بها ثوب أمي ابو شبك حتى مزقتة خوفا من نظرات النساء لي حينها صحن بصوت عال لأمي عن البلوى التي جلبتها معها..
كانت يدي مصدر خوف للجميع، أقاربي، أطفال العائلة وذويهم إخوتي وزوجة أبي وزوجة أخي الأكبر..
كنت أرى نظرة الكره والقرف في وجوههم وكنت أسير نحو تعلم الشتائم للمرة الأولى، كنت أشتم العالم الخارجي بداخلي، أشتم كل أقاربي والأطفال في سني، كنت أشتم الفتيات اللاتي يخشين مصافحتي، ولم أمتلك الجرأة حينها بالشتم بصوت عال، كانت الشتائم بدرجاتها محرمة في بيتنا، وكنت أغبط أخي غير الشقيق لأنه قادر على الشتم دون أن يحاسبه أحد..

تمسكت بالنخلة حينها وبدأت أنتبه لموضع قدمي، وببطء تعلمت أن أثبت قدمي وأقطف بيد بعض الرطب وأخبئه في جيب فستاني الذي وبختني أمي لاحقا لأني قد مزقت خصرة..
كان الشعور جميلا وأنا أشعر بنسائم العصر الصيفية تداعب وجهي وتدخل في خياشيمي رائحة النخلة المختلطة برائحة بخور الصمغه الذي بخرت به أمي ملابس..
وبخوف بدأت أضع قدمي أسفل الآخرى عبر توثيقها في كرب النخلة حتى لا أسقط فأزيدني تشوها..
وما أن استطعت النزول كررت عملية تسلقها وخرف “قطف” الرطب بين نخلة الجدمي، السوادي والنغال وكان الأمر ممتع لي ومسل لفتاة تعودت محادثة نفسها..
فتاة تقضي ظهيرتها يوميا في حوض المزرعة المستطيل تعوم فيه كضفدعة أتعبتها حرارة الشمس..

لماذا الآن وأنا أحاول إنهاء هذه الرواية المملة أتذكر كل هذه اللحظات..
لماذا بعد أن استطعت أن أحقق العهد الذي إتخذته مع نفسي تصلني رائحة المزرعة والنبات والبرسيم والقت، لماذا أجد في فمي طعم الجدمي الذي أحب ولسعة النغال والسوادي الذي أكره؟!..
وأشتاق كطفل للسباحة في حوض المزرعة المستطيل..
وأرى كل ما حدث كرأي العين بتفاصيله الدقيقة..
هل الرواية هي السبب؟..
كان لي جدة أحبها ولا أذكر منها إلا صوتها بلهجة أهالي بهلاء تغني لي نامي نامي يا صغيرة
هذه الجدة كانت تضمني حين تسمع صوت بكائي، تتلمس بأصابعها كفها المجعد وجهي وتبدأ بعدها في جمع خصلات شعري المتمردة وهي تقول :يوه يوه ضاع خاتم ذهب حيتك..
يوه يوه من زين صبعش يا بنية..
يوه يوه عمك شرالش كف
يوه يوه ضحكي كما الشيخات..
جدتي نصراء بنت مثقال تبصرني بسمعها وتحدثني بأصابعها..
رحمة الله عليك يا أم خميس.. رحمة الله عليك يا بنت مثقال..
قال لي أبي في عمر لا أذكره :عليك أن تتعلمي النسيان يا أبنتي فمن لا يمتلك النسيان يعش طوال عمرة في تعب..
منذ تلك اللحظة وأنا ذاكرتي لم تهرم، أصبحت أقرب بأرشيف يوثق كل شيء..
وان نسيت الأسماء أذكر تفاصيل الوجوه، الأصوات والأحداث..
انها الساعة الثانية صباحا مرة أخرى..
ومرة أخرى افكر في كل الأمور التي يجب أن لا أفكر فيها..
ومرة أخرى اسألني لماذا تهاجمني الذكريات كلما وضعت بين يدي كتاب أسأت إقتنائه..

تبا الآن أراني بفستان الدانتيل الأصفر الذي أحضره لي أبي من دبي مع قبعة رأس صفراء بشرائط بيضاء وحذاء أصفر وجوارب بيضاء طويلة مخرمة..
أراني بوضوح بقصة شعر رأسي الصبيانية وأسمع صوت إخوتي ضاحكا مستهزءا مغنيا لي “البقرة الجميلة جابت لي لبن” لم أبكي حينها ولم أبكي حين أمسكت ابنة عمي بكرتون الجبن قائلة انتي تشبهين البقرة التي في الصورة، حينها قلت في نفسي البقرة انتي وبناتك..

قال لي أبي ذات عمر :ابتسمي قليلا في وجه من لا تحبين
قلت له:كيف أبتسم لأشخاص يكرهوني؟
أجابني حينها ولم أفهم إجابته ذلك الوقت :في ابتسامتك نصر لك وهزيمة لهم..
لكني تقيدت بنصيحة أبي ورأيت ما تصنعه الإبتسامة..

حسنا أيتها الذكريات
جسدي مرهق، كتفي يأن من ثقلك دعيني قليلا أرتشف هذه الشراب الذي أعدته قبل ان تهاجميني هكذا..
#وفاء_سالم ?
#يوميات_ما_تهم_أحد

مقالات ذات صلة

إغلاق