المقالات
نورس
محمد الرياني
هدأ البحرُ تمامًا، يومَ أمس كان الموجُ عاتيًا، اليومَ وهما جالسان يعدَّان النوارسَ التي حضرت في الصباح مثلهما شبَّهتِ البحرَ بصفحةِ كراسةِ الرسم، حكتْ له أنها رسمتِ البحرَ على الكراسةِ بلا حركة، استدركتْ بأنها جعلتْه باللونِ الأزرقِ الغامقِ ووضعتْ لها المعلمةُ نجمةً لتشجعها ووقَّعتْ عليها، قال لها لا أصدقُ أنكِ ترسمين البحر بهذا الهدوء، انظري إلى طوله الذي يتجاوز ناظرينا عن اليمين وعن اليسار، سحبتْ من حقيبتها الصغيرةِ ورقةً مطويةً وأعادتْ بسْطها ثم سحبتْ من جيبه القلمَ الأزرقَ لترسمَ البحر، مرَّ قاربٌ صغيرٌ سريع، قال لها مازحًا: الحقي به قبل أن يغادر ، رسمتْ مؤخرتَه وبعضَ الدخانِ الأسودِ المنبعثِ من سرعته، نظرَ إلى البحرِ في ورقتِها الصغيرةِ وهو يهزأ بها، ماذا لو رميتِها في طرفِ البحر؟ سيبتلعُ البحرُ ورقتَكِ وبحرَكِ معًا، تناثرتِ النوارسُ مع الغروبِ فوق الشاطئ، خيوطُ الشمسِ وهي ترسمُ ملامحَ الغروبِ نسجتْ مع النوارسِ حروفَ الكتابة، قالت دعكَ من الهراء، لن ألقيَ الورقة، سأرسمُ واحدًا من النوارسِ وأتركُ البقية، اختر لي نورسًا وسأرسمه لك، نظرَ إلى نفسه وعليه قميص أبيض، قال لها : أنا النورس. ارسميني نورسًا يحلِّق فوقَ البحر، هزأت به وراحت ترسمها كلها، غربت الشمس فحلقت وطارت تتجه شمالًا تريد العودةَ بعد هجرةِ يومٍ عن الديار، بقيَ واحدٌ ظلَّ يحوم ويحوم، شكَّ بأنه لايرى، أو به تعب، هبطَ بالقربِ منهما وتظاهر بأنه يلتقط من رمال الشط ، قال لها لايفتْكِ هذا المنظر، ارسمي النورسَ قبلَ أن يحلَّ الظلام، هجمَ عليها والتقطَ الورقةَ وطار يريد اللحاقَ بالسرب، وقفَ أمامها يحرك يديه ويصدر صوتًا كالنورس، فتحت حقيبتها تبحث عن ورقة أخرى لترسمه فلم تجد، أسرعت نحو رمل الشاطئ ورسمته بإصبعها على التراب الأبيض ، سألها عن لون البحر في الليل، استدركت بأنها رسمتْ بحرَ النهار، ضحك وهو يطلب رؤية بحر الليل، افترشا الرمل واقتربا من البحر أكثر يرميان بفتات الخبز للسمك الصغير الجائع، منعتهما ظلمة الليل من تمييز اللون، سألته عن نورس قادم في الليل يقف على النقش، ضج المساء بهدير الأمواج، خاف على مشاعره أن تتغير، دفنا آثارهما وتركا آخر قطعة خبز بين الأمواج تتصارع عليه صغار السمك.