الامارات

محاضرة عن هل تقدّمت المعرفة أم تعمّم الجهل ؟

بمؤسسة بحر الثقافة

 

هيفاء الأمين – أبوظبي

في يوم الأحد الموافق 28 ابريل 2019، من منبر مؤسسة بحر الثقافة بمعرض أبوظبي للكتاب 2019، وبحضور سمو الشيخة روضة بنت محمد بن خالد آل نهيان مؤسس ورئيس مجلس إدارة ” بحر الثقافة ” بأبوظبي، وبحضور أصحاب المعالي والسعادة الضيوف الكرام من كبار الشخصيات وسمو الشيخات وحشد كبير من المثقفين والإعلاميين . وضمن فعاليات المؤسسة في جناحها وخلال محاضرة معرض
بدأت بالسؤال للأستاذ الإعلامي والأديب زاهي وهبي جاء فيه
هل تقدّمت المعرفة أم تعمّم الجهل ؟

قال وهبي ربما يكون عنوان هذا اللقاء من أكثر العناوين إثارة للاهتمامِ والحيرةِ في الآن نفسه. فالسؤال المطروح لا إجابةَ شافيةً له أو عليه. مَن ذا الذي يستطيعُ الجزمَ وإدعاءَ امتلاكِ الجوابِ اليقينيِّ الحاسم. نحن في زمن تتكسّرُ فيه أصلاً الكثيرُ من اليقينيات التي نشأنا عليها واعتبرناها مسلماتٍ مطلقةً، من الفيزياءِ الكونية إلى نصائح الغذاء والصحة. ما كان يستقرُ سابقاً عقوداً طويلة من الزمن وأحياناً قروناً كاملة، بات يتغيرُ ويتبدلُ بين ليلة وضحاها.
حقاً نحن حيال واقعٍ مُحيِّر. فمن جهة يفتح تطورُ تكنولوجيا الذكاء الصناعي آفاقاً معرفيةً أمام البشر، وتوفر وسائل التواصل الحديثة تبادلاً برقياً للمعلومات والآراء والأفكار، لكنها من جهة أخرى تتيح لكل مَن يشاء أن يُفتي بما يشاء. فتغدو عملية التمييز بين الصواب والخطأ، بين الحقيقة والكذب عملية شائكةً معقدةً، تحتاجُ إلى الكثيرِ من الوعيِّ والتدقيق والتمحيص. ومَن يملك في عصر اللهاث الوقتَ والصبرَ والرويةَ ليتبينَ الخيطَ الأبيضِ من الخيطِ الأسود. أخطر ما نواجهه في ميدان المعرفة والثقافة بمعناهما الشامل الواسع، هو غياب المرجعية والمعيار والسياق. مَن يُقرِّرُ مثلاً ما الذي ينبغي نشره من عدمه، مَن يُفتي بأن هذا النصّ أو ذاك جدير بالتميز والصدارة، مَن يستطيع أن يحول دون انتشار لازمة رديئة مثل: آه حنان.
هل نحن حقاً في عصر آه حنان. ألم يقل الروائي الأورغواني إدوارد غاليانو إن وسائل التواصل أعطت الرعاع الذين يحتسون البيرة في الحانات الحق نفسه في إبداء الرأي بقضايا أدبية وعلمية أسوة بحاملي جوائز نوبل؟ بمقدار ما في هذا القول من طبقية ثقافية إذا جاز التعبير فيه من الصواب، على الأقل لجهة توصيف الواقع.
الآن يستطيع أي شخص أن يكتب أي كلام من نوع كنت ماراً في الحارة فرأيت فراشة تطير من شفة الجارة. ويذيل الجملة بتوقيع جبران خليل جبران مثلاً. سوف نحظى بالعشرات وربما بالمئات والألاف ممن يتناقلون العبارة نفسها وهم على يقين أنها لجبران خليل جبران. قد يكتب أحدنا جملة معينة في سياق معين ودلالة محددة. سوف ينقلها شخص آخر ويستخدمها في سياق مختلف تماماً ومضاد أحياناً، من دون أدنى إشارة إلى مصدرها ومرجعها. وكيف نستطيع فهم مقولة بلا فهم الظروف والسياقات التي قيلت فيها. إنها حقاً معضلة!
لكن كل هذا الخبط العشواء في عالم اليوم، لا يحجب حقيقة أن التقدم التكنولوجي خصوصاً على مستوى الذكاء الصناعي قد فتح آفاقاً جديدةً شاسعةً أمام الإنسان المعاصر، وأتاح سهولة غير مسبوقة في الوصول إلى المعلومات. لكن ألا يمكن أن تكون المعلومات أكثر والمعرفة أقل؟ كيف؟ ببساطة اليوم لو أخذنا كلمتين من بيت شِعر نستطيع بواسطة العم غوغل كرمّه الله وبكبسة زر معرفة البيت من أي قصيدة ولأي شاعر ومَن هو هذا الشاعر…إلى آخره. وهذا أمر ممتاز، قياساً بالوقت الذي كنا نحتاجه سابقاً للوصول إلى المعلومة نفسها. لكن سابقاً كنا كي نصل إلى معلومة معينة نجمع في الطريق إليها عشرات المعلومات ونراكم وعياً ومعرفة وثقافة عامةً. هذا مجرد مثال على أن ما نعيشه اليوم من تطور هو حمّال أوجه يصعب الحسم فيها واليقين.
مقابل العشوائية والفوضى التي تتسبب بها اليوم الميديا الحديثة نجد في فسحاتها ما يعزي ويُفرح، كأن نلاحظ وجود مئات المواقع يتابعها عشرات الألاف لأدباء وكتابٍ ومفكرين لم يعودوا موجودين بيننا: نزار قباني، محمود درويش، فدوى طوقان، غسان كنفاني، علي الوردي، عبدالله القصيمي، غازي القصيبي وسواهم ممن تركوا إرثاً إبداعياً رائعاً.
كذلك كسرت الميديا الحديثة احتكار المنابر التقليدية، الحكومية والخاصة، للنشر وتقديم التجارب. لم يعد مزاج رئيس التحرير أو المسؤول الثقافي في هذا المنبر أو ذلك هو المقرر على مَن يُسلَّطُ الضوء أو يُحجب. وهكذا اكتشفنا عشرات، بل مئات المبدعين العرب الشباب الذين كانوا مغيبين عن الواجهة لأسباب شتى تبدأ بالسياسة ولا تنتهي بالخصومات والأمزجة الشخصية. صحيح أن هذه الأصوات الإبداعية تختلط بجعجعة وآهات حنان وأخوتها وأخواتها، لكنها في النهاية هي الباقية، وهذا ما تعلمنا إياه حركة الواقع والتاريخ.
في النصف الملآن من الكوب نرى إيجاباً رغبة سوادٍ عظيم من مواطني الميديا الحديثة يرغبون في أن يكونوا شعراءَ وكتاباً ومفكرين وحكماء، لكن ماذا يتسنى لهؤلاء غيرُ هذا الفضاء، الحكومات والمؤسسات الكبرى والشركات العابرة للقارات لا تقيم وزناً كبيراً للثقافة على مختلف أشكالها، إنه عصر التطرف على ضفتين: ضفة التكفير والغلو والتطرف الديني، وضفة اللاتفكير والتطرف الاستهلاكي والتوحش التجاري الذي ما عاد يرى الكائن البشري إنساناً بل مجرد زبون.
زبون في سوبر ماركت كونية تدعى العولمة، وشعارها “إنجوي”، استمتع.
استمتع بحواسك الخمس كلها لكن إياك أن تستعمل عقلك. أترك العقل لصنّاع العقول الصناعية.
أمر آخر مهم جداً، وشائك جداً، وهو أن عصر الذكاء الصناعي فتح الفضاء على مصاريعه لجهة التواصل بين الأفراد والجماعات. لكن أَحقاً زالت الحواجز بين الناس ولم يعد للحدود الجغرافية تلك الأهمية التي عرفناها على مَرِّ السنين؟
العالم يجري بسرعة، ما كان يحتاج سنيناً صار يحدث في أيام، وما كان يحصل في أيام لم يعد يلزمه أكثر من ثوان معدودات. المكتبة التي كانت تحتل غرفة كاملة بتنا نحملها في “جهاز” أصغر حجماً من كتاب، الأغنيات التي كانت تُسجَّل في الأسطوانات والكاسيتات صارت تُخزَّن في الهاتف الجوال أو في وسائط الواحدة منها بحجم أنملة، وقِسْ على هذا المنوال. الأهم من هذا كله تواصلٌ آخذٌ في الاتساع بين أهلِ معمورة متعددة الأعراق والثقافات. تواصلٌ ذو حدَّين، ليس بالضرورة أن يكونا متناقضين، بل لعلهما متلازمان متوازيان. من جهةٍ يتعارف الناس ويتعرَّفون على بعضهم بعضاً، بما يُضمره التعارف من فضول ورغبة بإكتشاف الآخر ولو “افتراضيا” عبر الصور والكلمات. هنا لم يعد الآخر مجهولاً أو مجرداً، صار معلوماً ومعروفاً، ولئن كان الانسان عدو ما يجهل، فإن النتيجة “المنطقية” لِ”واقعٍ افتراضيٍّ” مستجدٍ جَعَلَ المجهولَ معلوماً هي أن يصبح العالم أقل عداوة وحروباً ونزاعات، وهذا ما لم يحدث حتى الآن.
من جهة ثانية، يمثِّلُ هذا الانفتاح الهائل “خطراً” على الهويات القومية والثقافات المحلية ما يدفع كثيرين للانكماش والانغلاق ومحاولة سدّ النوافذ في وجه رياح “الثورة الرقمية”. برهانُ هذا “الخطر” تنامي التيارات اليمينية المتطرفة والأصوليات الدينية والعرقية في أنحاء العالم كله، ومشاعر النقمة والغضب حيال المهاجرين واللاجئين. هل أنكى من أن يكون مثل دونالد ترامب بخطابه العنصري الكريه رئيساً للدولة الأقوى في العالم؟
ما يعزّز الاتجاه الثاني من معادلةٍ حائرةٍ بين انفتاحٍ وانغلاق، هو عدم التوازن بين عالمين، واحد متقدِّم منتِج لأدوات العصر (لا نقول إنه خال كلياً من الأزمات)، وآخر رازح تحت وطأة الحروب والفقر والأمية والبطالة، مستهلِك لِكلِّ ما ينتجه العالم الأول. عالمٌ مهيمِنٌ مسيطِرٌ، وعالمٌ مهيمَنٌ ومسيطَرٌ عليه. المفارقة أن الأول يبدو أكثر خوفاً وهلعاً، لم تعد الحروب بعيدة أو “نظيفة” كما كانت تبدو، أو كما كان يُراد لها أن تبدو. الارهاب المعولَم بات قادراً على الضرب أنَّى ومتى يشاء، موجات الهجرة عبر بحارٍ تحوَّلت “مقابر مائية”، صارت فزاعة تخيفُ المتمسكين ب “صفاء” مجتمعاتهم وأعراقهم، التنقل بين البلدان غدا محكوماً بهواجس الأمن ومستلزماته، الحدود الجغرافية التي خلخلتها “العولمة الافتراضية” يسعى حرَّاسها جاهدين لإعادتها الى سيرتها وصورتها الأولين.
صحيح، لم يعد للحدود الجغرافية الأهمية والجدوى التي كانت عليها، لكن على الرغم من تشكِّل ما يُشبه كوكباً افتراضياً في استطاعة “مواطنيه” التواصل فيما بينهم بلا حدود ولا رقابة، فإن حدوداً أخرى أكثر رسوخاً لا تزال تفصل بين أهل المعمورة الواحدة، حدود تترسَّخ وتتعمق وتعلو أسلاكها الشائكة، هي حدود العلم والمعرفة. لا يستوي مُنتِجُ المعرفة مع مُستهلِكها، حتى لو تواضع الأول وسعى الى شيء من العدالة والمساواة. فكيف الحال اذا كانت مصالحه ومطامعه تدفعه الى التمسك بهمينته وسيطرته، وتوسيع الفجوة بينه وبين الآخرين.
لئن فهمنا أن “صناعة المعرفة” والتكنولوجيا الذكية الممكن استخدامها في جميع المجالات بلا استثناء، هي ثروة العصر الرقمي لا فقط ثورته، وميدان الاستثمار المستقبلي الأهم، نستطيع أن نفهم كثيراً من التحولاتٍ المفصلية الجارية في العالم بالنار والحديد ودماء الأبرياء، ولا سيما في منطقتنا التي تراجعت مكانتها الاستراتيجية بفعل أسباب كثيرة من أبرزها تخلّفها عن انتاج “المعرفة” بعد أن تخلَّفت أصلاً عن ركب الثورة الصناعية، وبداية أفول مكانة النفط كمحركٍ أساس لاقتصادات العالم.
تتخلخل حدود ومسلَّمات وتنشأ حدود ووقائع جديدة، والمؤسف أن حدوداً معرفية وثقافية تفصل بين عالمين هي أشدّ وأدهى من حدود الجغرافيا، وأكثر قابلية لَِمزيد من التمييز والشعور بعدم العدالة والمساواة ما يؤدي الى مزيد من العنف والكراهية في عالم بأمسِّ الحاجة الى الحُبّ والانصاف، والحب في جوهره لا يمكن أن يقترن بالجهل. المثقف الحقيقي هو الذي يحيا بحب، ينتج بحب، يتفق ويختلف بحب، ودائماً حبُ المختلف هو الأكثر نزاهة، حب الشبيه هو في جوهره حبٍّ للذات ليس إلا. حب المختلف أكثر صعوبة لكنه أكثر نزاهةً وجمالاً. تثقفوا تُحِبوا وتُحَبوا.
وفي ختام المحاضرة قال وهبي سعيد لوجودي في معرض أبوظبي للكتاب محاضراً للمرة الثانية في مسألة ثقافية مهمة جداً. وأشكر مؤسسة بحر الثقافة على دعوتها الكريمة لي كي أتحدث أمام نخبة من المهتمين حول مستجدات الميديا الحديثة وأثرها على الثقافة الإنسانية، وأكثر سعادة كون المحاضرة تركت أصداء إيجابية لدى الحضور كافة، وكذلك فرحت بإصرار الحاضرين على سماع بعض قصائدي في نهاية المحاضرة التي قدّمت لها وأدارتها إيناس سليمان.
وقد ألقيت على مسامع الحاضرين قصيدتين هما: أمي وأضاهيكِ أنوثة.
أتمنى أن تتسع فسحات المعرفة والوعي والثقافة وتزداد المنابر والمؤسسات المهتمة بهذه العناوين سواء أكانت هنا في أبوظبي أو في أي عاصمة ومدينة عربية لأن لا خلاص لنا من أزماتنا وانقساماتنا بغير التفكير والتنوير ورفع منسوب الوعي لدى الأفراد والجماعات.

مقالات ذات صلة

إغلاق