المقالات

بين شجاعة الأمس وشجاعة اليوم

 

 

 

بقلم/حسين بن سعيد الحسنية

‏h_alhasaneih

 

 

أرسل لي أحدهم قائلاً: لقد بلغتُ من العمر زهرته وأنا لم أفعل شيئا ً لنفسي ولا لمجتمعي، رغم تمتّعي بقوتي وعنفواني وشجاعتي، عجزتُ في البحث عن ميدان أُظهر فيه قدراتي وطاقاتي، يُحزنني أن لا أرى تقدير الآخرين لي ولا لجرأتي وحماسي، وأتعب كثيراً حينما أرى غيري يتصدّر جمعاً أو يُبقي ذكراً أنا أحقُّ منه فيه، لا تتخيل حينما أسمعُ كلمات المدح أو جُمل الفخر تُقال لغيري وأنا في قرارة نفسي من يستحقها، لقد مللتُ يا صاحبي من هذه الحياة وأنا أرى قوّتي تضعف وعزمي ينثني وشجاعتي تبور، أنا أملك من الشجاعة ما يجعلني بطل عصره وفريد زمانه لكن .. كيف أصنع؟!

 

فكتبت له: يبدو أنّك شجاع فعلاً ومن شجاعتك اعترافك في سؤالك، ولكنّك تجهل مواطن تفعيل شجاعتك تلك، أو كيف توظّفها التوظيف الأمثل، ودعني أبيّن لك الفرق بين شجاعة الأمس وشجاعة اليوم، حتى تتّضح لك الصورة الحقيقية للشجاعة، ومن خلالها تستطيع أن تنطلق.

 

 

الشجاعة اليوم ليست في مرابط الخيل أو في ارتفاع الرايات أو انتفاضة الأجساد،

 

الشجاعة اليوم ليست في داعية آل فلان أو وسم آل علّان أو غزو هنا أو تصبيحة قوم هناك،

 

الشجاعة اليوم ليست في حنا وحنا وحنا، أو في مقابيس الدُجى ومغاوير البِلى وعشاشيق الموت،

 

الشجاعة اليوم ليست في المدائح الجوفاء ولا في المهايط الخادع ولا في العنصرية القبليّة المؤذية،

 

الشجاعة اليوم ليست في الرقص الحماسي ولا في ألحان الشيلات ولا في الاستعراض بالجنابي والبنادق.

 

الشجاعة اليوم ليست في كل ما تقدّم، لأنّها شجاعة الأمس والأمس ولّى ونحن أبناء اليوم، ولو أنّ بعضاً من صور الشجاعة التي ذكرتها كان لابد منها في زمن الخوف والجوع والظلم، ويُعذرُ أصحابُها حينها، خاصةً أولئك الذين كانوا يردّون ظلماً أو يُدافعون عن حقٍ أو يسعون في الكسب الحلال،

 

أمّا الآن يا صاحبي، فمقاييس الشجاعة اختلفت تماماً كاختلاف الزمن والناس والرؤى وكذلك الأهداف.

 

شجاعة اليوم في استقامتك على دينك واقتداءك بنبيك عليه الصلاة والسلام ومحافظتك على صلاتك وإقامتك لشعائر دينك حق القيام، فلا شجاعة لعاصي وإن كان من أقوى الناس وأجرأهم،

 

شجاعة اليوم في تنقِيَتك لقلبك من القيم السيئة وعقلك من الأفكار الهدّامة وبيئتك من الأدوات المحرمة، فكل موتور جبان،

نَفْسُ الكَرِيم على الخَصاصة وَالأَذَى

هِي فِي الفَضَـاءِ مَـعَ النّسور تُحَلِّـقُ

 

شجاعتك اليوم حينما تنسحب بعزم من مواطن الريبة وتتملّص بصدق من بيئات الفساد، وتتبرأ بحق من أفكار الشيطان،

إِنّ الشجاعةَ في القلوبِ كثيرةٌ

ووجدتُ شجعانَ العقولِ قليلًا

إِنّ الشجاعَ هو الجبانُ عن الأذى

وأرى الجريء على الشرورِ جبانًا

 

شجاعتك اليوم في اهتمامك بأسرتك ووقوفك مع ربعك وانتماءك لوطنك ودفاعك الحثيث والمستميت عن دينك، فلا شجاعة لمتعالي أو متكبّر أو حاقد على دينه ووطنه وقبيلته وأسرته،

 

شجاعتك اليوم بين كفتي ميزان الحياة السعيدة كفة رجاحة عقلك وكفة عاطفة قلبك، وستظلّ سعيداً بهذه الحياة وأنت تسعى في إقامة ذلك التوازن المطلوب،

 

شجاعتك اليوم في صبرك على جهل أعداء العقلاء، وحلمك على سفاهة السفهاء، وحكمتك عند تصادم الآراء.

يرى الجبناءُ أن العجزَ فخرٌ

وتلكَ خديعةُ الطبعِ اللئيمِ

وكُل شجاعة في المرءِ تُغْنِيْ

ولا مثلَ الشجاعةِ في الحكيمِ

 

شجاعتك اليوم حينما يكون لك في سجل الكرام مكان، الكرام الذين يجودون بأخلاقهم للجميع دون فضل أو منّة، وكل صاحب خلق سيء يخشى الوقيعة به، فلا تراه إلّا مندسّاً ذليلاً،

 

شجاعتك اليوم حينما تتصدر المشهد من أجل الحق، وتقود القوم إلى فعل الخير، وتعتلي المنبر لبذل المعروف،

 

شجاعتك اليوم في إيجادك لاختيار جليسك، وانتقاءك لقدوتك، وحرصك على ملازمتك لكل من تعتقد أنّ ملازمته خير لك في دينك ودنياك.

 

شجاعتك اليوم حينما يكون العلم سلاحك، والعمل ساحتك، والوقت بضاعتك، وقدراتك ومواهبك وامكاناتك وطاقاتك جنودك وجيشك،

لا يَذْهَبَنَّ بكَ الترددُ

إِن عَزَمْتَ على عَمَلْ

ما أخطأَ العلياءَ من

ركِبَ الشجاعةَ والأَمَلْ.

 

 

شجاعتك اليوم في ركعتي ليل وجلسة تدبّر وقراءة كتاب وترديد أذكار وكتابة سطور وترك أثر وإبقاء مجد،

 

شجاعتك اليوم حينما تكون مثل أوائلك في الفضيلة والمرؤة بل وأعظم منهم وأفضل، فلتأت بما لم يأتون به، رفعة لك ولهم،

لسنا وإن أحسابنا كرُمت

يوماً على الأحساب نتّكلُ

نبني كما كانت أوائِلنُا

تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا

 

شجاعتك اليوم يا صاحبي، في أن تكون أنت أنت، فلا تتقمّص شخصية آخر، ولا تقلّد مشية مكابر، ولا تنتهج منهجاً مغاير، واعتنِ بنفسك حق العناية، ووظّف ما تملك التوظيف المناسب، وها أنت عرفت فالزم وتعلّمت فافهم.. أسبغ الله عليّ وعليك من جزيل النِعم ، والسلام .

مقالات ذات صلة

إغلاق