صحة
: بيانٌ للتعبير عن القلق ونداءٌ عالمي للتحرك العاجل
نجاة الغامدي
أعلنت منظمة الصحة العالمية في 30 يناير 2020 أن تفشي فيروس كورونا أصبح “حالة طوارئ صحية تثير قلقاً دولياً”، ويعد هذا أعلى مستوى للتأهب تفرضه المنظمة. وبعد عامين، تسببت الجائحة بوفيات زادت عن خمسة ملايين ونصف المليون ، إضافة إلى فقدان عشرات الملايين من سنوات الحياة بسبب الأمراض المرتبطة بكوفيد-19 . وقد تعرضت أنظمة الرعاية الصحية وكوادرها لمقدار هائل من الضغوط خلال فترة الجائحة.
ورغم أن الجائحة ستختفي في نهاية المطاف، لكن آثارها على السكان ستبقى حاضرة لسنوات طويلة قادمة، ويتجلى ذلك في تأثيرها المباشر على صحة الجهاز التنفسي لدى المتعافين حول العالم، ناهيك عن تداعياتها غير المباشرة على الحالات الصحية الأخرى مثل السرطان وأمراض القلب وغير ذلك، في ظل المعوقات والضغوط التي تعرضت لها أنظمة الرعاية الصحية خلال العامين المنصرمين. وستبقى الآثار السلبية حاضرة أيضاً على المستويين النفسي والبدني لملايين سكان العالم بسبب “الأضرار الجانبية” التي تسببت بها الجائحة والمتوقع لها أن تؤدي إلى أعداد وفيات تتجاوز الأعداد التي تسبب بها الفيروس نفسه .
إن هذه الأزمة الصحية تدفع إلى تساؤل هام حول الخطوات المختلفة التي كان بالإمكان اتخاذها استعداداً لمثل هذه الجوائح. فأنظمة الرعاية الصحية اليوم بحاجة ماسة لتبني مقاربة الاستجابة العاجلة لتعزيز مرونتها المستقبلية لمواجهة مثل هذه الأزمات، لتصبح بالتالي أكثر استدامة في مواجهة الضغوط التي قد تستمر لفترات طويلة. ومن هذا المنطلق، انعقدت قمة مرونة أنظمة الرعاية الصحية في إكسبو 2020 دبي يومي 30 و31 يناير بمشاركة نخبة من قادة القطاع من مختلف أنحاء العالم لتبادل المعارف ووضع الخطط والإجراءات الكفيلة بتحويل أكبر أزمة صحية يواجهها العالم الحديث إلى حافز لتعزيز مرونة ومتانة أنظمة الرعاية الصحية حول العالم.
نحن مجموعة من ممثلي الحكومات السابقين والحاليين والخبراء في الرعاية السريرية والمتخصصون في القطاع الصحي، والأكاديميين والمبتكرين في مجال التكنولوجيا والمرضى والمواطنين ومجموعات المجتمع المدني، ونتبنى اليوم التزاماً موحداً وراسخاً باتخاذ إجراءات فاعلة وحشد جهود مختلف القطاعات والدول لتعزيز مرونة واستدامة أنظمة الرعاية الصحية لتكون أكثر استعداداً للمستقبل.
استجابة عاجلة لتأسيس أنظمة رعاية صحية أكثر مرونة واستدامة
انطلاقاً من هذه القمة، ندعو جميع المعنيين لوضع أهداف طموحة والتحلي بالشجاعة والالتزام لاتخاذ إجراءات واسعة النطاق نظراً للحاجة إلى إعادة النظر في نماذج عمل الرعاية الصحية القديمة والسياسات المالية التقليدية في القطاع ووضعها ضمن مسار واضح يقود إلى تأسيس أنظمة رعاية صحية أكثر متانة ومرونة.
1. التعامل مع قطاع الرعاية الصحية كأحد الأصول الاستراتيجية وتبني عقلية ضخ الاستثمارات فيه. باتت تكلفة الأمراض المعدية وغير المعدية على المستويات البشرية والاقتصادية والاجتماعية تفتقر إلى الاستدامة، وستصل حال بقائها على هذا المسار إلى مرحلة تتحول فيها إلى عبئ لا يمكن لأحد تحمله. ولفترة طويلة، تم النظر إلى الأنظمة الصحية من زاوية ضيقة، حيث اعتبرت مصدراً للتكاليف التي يتعين احتواؤها. وبهذا تبرز الحاجة الماسة إلى التغيير على صعيدي السلوك والعقلية لعكس مسار هذه النظرة ورؤية القطاع من زاوية أوسع. ويجب على قادة السياسة والأعمال، وبشكل عاجل، إدراك أهمية الاستثمار في قطاع الرعاية الصحية باعتباره ضامن تعزيز العافية والاستقرار والازدهار، وليس مجرد مصدر للتكاليف ويتعين إيجاد حل له. وينبغي تزويد أنظمة الرعاية الصحية بالموارد لتكون قادرة على تحقيق المأمول منها في المستقبل، بدلاً من تكرار الميزانيات التي خُصصت لها في الماضي. فتولي قيادة القطاع في العصر الجديد سيحقق التوازن بين الحاجة المستمرة لأنظمة صحية عالية الكفاءة مع تركيز أكبر على ضمان فاعليتها في تحقيق أهدافها التي تتلخص في: تحسين الصحة وتحقيق العدالة الصحية، بأساليب تتسم بقدرة عالية على الاستجابة، وتتبنى مبادئ العدالة المالية، والمرونة في مواجهة الأزمات وتطبق أسس الاستدامة في تخطي الضغوطات الأساسية على غرار الأعباء المتزايد الملقاة عليها بسبب الأمراض المزمنة.
2. ضمان الحق في الصحة والوصول إلى الرعاية المناسبة – للجميع. تعتبر الصحة حقاً أساسياً من حقوق الإنسان، وينبغي على النظم الصحية تضمين واعتماد مبادئ الإنصاف والمساواة ضمن نماذجها التشغيلية. ويمثل الوصول الشامل إلى حملات التوعية الصحية وخدمات وسلع الرعاية الصحية عالية الجودة “ضرورة حتمية” بالنسبة لجميع الدول. كما ينبغي أن تكتسب مسألة تقديم خدمات الرعاية الصحية طابعاً أكثر شمولاً وأن تكون مصممة لتلبية احتياجات الفرد، بدلاً من افتراض تشابه احتياجات جميع المرضى. ولا بد من تسخير البيانات والتكنولوجيا الصحية بصورة أكثر فعالية لإنشاء وتنفيذ نماذج رعاية تتفاعل مع المرضى ومقدمي الرعاية بصورة أكبر، وتعمل على تحسين إمكانية الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية والنتائج الصحية المحتملة للفئات المهمشة – سواء كانوا من المواطنين المتواجدين في المناطق الريفية أم من الأشخاص ذوي الدخل المنخفض أو الآباء الوحيدين، الذين يعتمدون جميعاً على نماذج رعاية ودعم مختلفة.
3. منح الأولوية للوقاية في جميع أنظمة الرعاية الصحية. تنفق بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نسبة تقل عن 3% من إجمالي الإنفاق الصحي على الوقاية، ويتم إنفاق 20% منها (أو 0.6% من إجمالي الإنفاق على الصحة) على التحصين والكشف المبكر عن الأمراض4. وفقط من خلال اتخاذ إجراءات مبكرة للوقاية من الأمراض وتشخيصها وعلاجها يمكننا تخفيف أعباء التكلفة غير المستدامة للمرض. وينبغي على الميزانيات الصحية وقرارات الإنفاق على الصحة (الاستثمار) النظر في الفوائد الشاملة وطويلة الأجل التي يمكن تحقيقها من خلال الوقاية الأولية أو الثانوية. كما يجب أن تشكل أنشطة التوعية والتثقيف الصحي أولوية بالنسبة لخطط الصحة العامة والميزانية بدلاً من إدراجها كملحق في هذه الخطط. وبات الفحص والكشف المبكر عن الأمراض القاتلة الصامتة مثل سرطان الرئة أو أمراض الكلى – على سبيل المثال لا الحصر – ممكناً اليوم، كما تتوفر اليوم قائمة أوسع من التدخلات المعدلة لمسار المرض والتدخلات العلاجية المحتملة. وينبغي على قادة السياسة تحديد قائمة أوضح من أهداف الوقاية الأولية والثانوية، والالتزام بتحقيق أهداف التحول المرحلي، وتعزيز المبادرات الرامية لضمان التعامل المبكر مع الأمراض المزمنة بصورة أكثر حسماً.
4. بناء القدرات الرقمية ووضع إطار عمل سياسي لجعل الخدمات الصحية أكثر استهدافاً وكفاءة وتجاوباً. لطالما لعبت التقنيات الرقمية دوراً حيوياً في الحفاظ على إمكانية الوصول إل الخدمات الصحية وتوسيع نطاقها خلال فترة تفشي الجائحة، حيث عملت على تقديم خدمات الرعاية الصحية للناس بشكل مباشر في منازلهم وفي المجتمعات المهمشة والمحرومة حيثما وجدت البنية التحتية المطلوبة. وتوفر مسألة انتشار خدمات الرعاية الصحية القائمة على التكنولوجيا الرقمية خلال فترة انتشار الجائحة أساساً يمكن البناء عليه في المستقبل، حيث تواظب نظم الرعاية الصحية على تسخير التقنيات الرقمية وتسعى لاستغلال جميع الفرص المتاحة في هذا الإطار مع التركيز على تلك المجالات التي ستحمل التأثير الأكبر في إطار تعزيز مرونة واستدامة النظم الصحية. وهناك حاجة واضحة لاعتماد مقاربة منهجية وقائمة على الأدلة على مستوى اعتماد التقنيات الصحية الرقمية، وينبغي أن تحظى هذه المقاربة بدعم استراتيجية رقمية وسياسات جريئة مع تمويل مخصص.
5. التعاون الدولي وفي قطاعات الأعمال بهدف تعزيز جهود التعلم والعمل المشترك لتشييد أنظمة صحية أكثر مرونة واستدامة على مستوى العالم، وذلك وفقاً لتوصيات اتفاقية “بي 20 للصحة وعلوم الحياة ” B20 Health & Life Sciences للعام 2021 . ويتعين على الحكومات تجديد التزامها بتبني نهج عملي قائم على العلوم للارتقاء بالأنظمة الصحية الوطنية والدولية، وتطبيق منهج “الصحة الواحدة” على امتداد كافة مستويات صناعة القرار. كما ينبغي تعزيز التعاون عبر الأوساط الأكاديمية والسياسية والقطاعين العام والخاص وتسخير الجهود المشتركة للاستفادة من الدروس المكتسبة من الجائحة ووضع الخطط وتبني الإجراءات والإصلاحات…